الجمعة، 9 يوليو 2010

«التشميس»: عقوبة الخروج من «جنة القبيلة»




فى عالم مغلق تدير القبيلة شؤونه، ويحكمه العرف، يصبح الخروج من «جنة القبيلة» بمثابة حكم بالإعدام مع إيقاف التنفيذ. فالقبائل فى سيناء هى «مصدر الرزق والسلطة والحماية» معا.


فى هذا الملف نتتبع  المحكوم عليهم عرفيا بـ«التشميس» وهى عقوبة ترفع يد القبيلة عن المحكوم عليهم، فيصبح دمهم مهدرا ولا يجوز الأخذ بالثأر لهم أو حمايتهم من أى مضايقات، فضلا عن مقاطعة المشمسين، وعدم المشاركة فى دفع أى غرامات مادية قد يحكم بها عليهم بعد قرار التشميس.

فى الملف ضحايا الأحكام العرفية فى سيناء يتحدثون عن حياة «مطاريد القبيلة» ومعاناتهم بعد قرارات تشميس صدرت فجأة لأسباب يبدو بعضها منطقيا لارتباطه بـ«تقاليد وأعراف القبائل والعشائر السيناوية» فيما يبدو بعض الأسباب الأخرى للتشميس مثيرا للدهشة وحوله علامات استفهام عديدة.

هذه الأسئلة يجيب عنها شيوخ القبائل، ويشرحون معنى التشميس وطريقة الحكم وكيف يتم الترتيب للعقوبة وإجراءاتها، وأساتذة علم نفس واجتماع يبحثون عن «لحظة الخلاص» لمن ألقت بهم الأحكام العرفية فى صحراء القبيلة، دون دولة تفرض قانونا موحدا على الجميع، ووسط متاهات الغضب والعنف والانتقام. فى هذا الملف جزء من «حكاية سيناء» تلك الحكاية التى يبدو أن لديها كل يوم جديدا.

«المشمَّسون»: الحياة فى انتظار الموت



ينص «القانون العرفى» لبدو سيناء على سبب واحد للتشميس، هو «الخروج عن التقاليد»، تقاليد لا يستطيع كتاب حصرها، ولكنها تبقى موشومة فى عقول بدو سيناء، يحيون معها، ويعايشونها، ويحاولون الحفاظ عليها. «المصرى اليوم» التقت بعدد من «المشمسين» لأسباب مختلفة، بعضها بدا مفهوما فى العرف القبلى وبعضها يثير الكثير من الدهشة وعلامات الاستفهام. طلب المشمسون  عدم نشر أسمائهم كاملة، والاكتفاء بالاسم الأول مع الإشارة للاسم الثانى بالحروف.


«سعد الدين» ٤٤ سنة، مشمس من ٧ سنوات، يحتضن كفه بكفه ويتذكر: «كنت أكبر أفراد القبيلة بعد شيخ القبيلة، حتى إنه كان من الممكن أن تنتقل لى شياخة القبيلة إذا حدث -لا قدر الله- له مكروه وكانت علاقتى بالجميع محترمة ولكنى فى نفس الوقت كنت أختلف مع شيخ قبيلتى فى بعض الأشياء، حيث كان يريد منى أن أنفذ ما يطلب دون مناقشة، أنفذه كالماكينة، وحين رفضت فوجئت ذات يوم بقرار تشميسى موقعاً عليه خمسة من الشيوخ،

وعندما أخذت هذا القرار وذهبت به للشيوخ، وسألت كل واحد منهم: «هل تعرفنى؟» قال لى لا. فأسأله: لماذا وقعت على تشميسى؟ فيرد: شيخك طلب هذا. وهكذا وجدت نفسى مثل الكلب الجريح فى الشارع لا يريد أحد الاقتراب منى، حتى إنى عندما أكون فى الديوان لا يقدم لى أحد كوب شاى مثل باقى الناس».

لا يطيق سعد أماكن التجمعات، ويهرب منها قدر استطاعته: «أعيش حاليا فى حالة خوف دائم، أخاف المعارك، وأخاف نظرات الغرباء، أخاف من المطالبة بأى شىء، أو الدخول فى أى شجار، لأننى الآن مهدر دمى، ولن أجد أى أحد يدافع عنى، هذا غير ظروف الرزق التى أصبحت ضيقة».

يعمل «سعد» حلاقاً، لكن بعد التشميس اختلف الوضع: «زمان كان يأتى لى من عائلتى حوالى ٣٥ فرداً ليحلقوا عندى، الآن لم يعد يأتى أحد منهم، هذا غير أن كثيراً من الزبائن أصبحوا يخشون الحضور إلى محلى بسبب أن المشمس فى تصورهم هو بالتأكيد شخص خارج عن القانون».

ورغم ضغوط الحياة، ونظرة المجتمع الذى يحيا داخله يقاوم «سعد» الضغوط النفسية التى تدفعه للتفكير بطريقة سلبية: «أخشى أن يحدث لى أى مكروه ولدىّ خمسة أبناء من الممكن أن يتجه أحدهم إلى طريق الشر، الذى رفضته، والذى تكثر إغراءاته هنا، خاصة فى منطقة حدودية كالتى نعيش فيها، مع قلة فرص العمل، فمع كل هذا الظلم يكون الخروج على القانون هو الطريق المفتوح لأى مشمس، لأن تجارة المخدرات أو الاستيلاء على السيارات، يتحول مع الوقت لمصدر سلطة وعزوة تعوض عن العائلة، لذلك اختار الكثير ممن صدرت بحقهم أحكام التشميس الصعود إلى الجبل والاحتماء بالمشمسين أمثالهم، وأنا أعرف أكثر من ١٥٠ شخصاً مشمساً، كثير منهم أصبح يسكن الجبل حيث يجد الحماية ويستطيع أن يفعل أى شىء دون محاسبة».


قصة أخرى للتشميس يحكيها صاحبها الذى رفض نشر اسمه ولو حتى بأحرفه الأولى. يقول المحكوم عليه: «كانت هناك مشاكل بين أهلى وأحد كبار العائلة، حيث كان لأهلى مبلغ من المال عند هذا الرجل، وكان يرفض السداد فأخذت جراراً زراعياً كان غريم العائلة يمتلكه وبعته لأسترد حقوقنا المنهوبة، وهنا بدأ الضغط على أهلى لتشميسى حتى رضخوا لهذه الضغوط وقاموا بتشميسى وحاليا كل فترة أعمل يومين فى الأنفاق لأحصل على مصاريفى».


قصص مختلفة الأسباب، تقود لمشهد نهاية واحد، يقف فيه البدوى وحيدا يواجه الخوف والإحساس بالغربة داخل أرضه، ويحمل فى داخله مشاعر متضاربة. «محمد. س» ٣٠ سنة من إحدي كبرى القبائل فى سيناء، كانت البداية بالنسبة له عندما كان يعمل فى مزرعة يملكها أهله، وقتها اقترض محمد بعض المال لشراء ملابس وموبايل، وحين بدأ الدائنون فى المطالبة تخلت عنه الأسرة وأعلنت تشميسه دون سداد قيمة الدين بالمخالفة للقانون العرفى نفسه ليجد نفسه وحيدا، لا عمل ولا عائلة، وبعد شهور طويلة استطاع محمد إيجاد فرصة عمل، ولم يكد – حسب روايته- يبدأ فى عمله الجديد حتى فوجئ بصاحب المزرعة يطرده بالرغم من عدم حدوث أى مشاكل منه، عندما علم بحقيقة تشميسه من قبيلته، وكان المبرر الجاهز: «إذا أخطأ لن يجد كبيرا له يمكنه الرجوع إليه».

دستور الصحراء: شيخ القبيلة فوق الجميع



بأرواح تائهة، يخرج «المشمسون» من قبيلتهم للمرة الأولى، ينظر لهم الجميع كحطام، يقطع الطريق، وينظر المحكوم عليه بالتشميس لنفسه كفرع مقطوع من شجرة القبيلة، محروم من حمايتها فى مجتمع قبلى تحكمه قوانين يصوغها أصحاب النفوذ العشائرى.

عقوبة التشميس يجدها بعض أهالى سيناء «عادلة»، وينظرون إلى «المشمس» نظرة تحمل العديد من المشاعر السلبية، فيرونه خطرا على مجتمعهم، عدالة العقوبة يفسرها «خليل الجغيمان»، شيخ قبيلة «أبوالجغيميين» التابعة لقبيلة السواركة بقوله: «القانون العرفى يختلف عن القانون العادى فى أن ليس به عقوبات سالبة للحرية كالسجن، ولكن هناك عقوبات مادية بأن تفرض غرامات وتكون مبالغ مالية كبيرة على مرتكب «الجرم» وتكون قبيلته كلها مسؤولة عن سداد هذا المبلغ، وبالطبع يكون هناك شخص خارج عن السيطرة، أيضا أن تكون عشيرته لا تقدر على تحمل الأحكام المادية التى يحكم بها عليه نتيجة أفعاله، لذلك يجب تشميس هذا الشخص، وعقوبة التشميس تمثل أقصى عقوبة يتلقاها الفرد داخل القبيلة، ومن متطلبات التشميس توقيع ٥ على ورقة الحكم، التى توزع بعد ذلك على ٣ مجالس عرفية للبت فيها.

التشميس ليس أحد أوجه العدالة دائما كما يؤكد «سعيد عتيق»، الباحث، السيناوى «فى الماضى كان التشميس عقوبة تنزل على الفرد الذى يجلب على العائلة أو القبيلة عاراً ما، وكانت هناك شروط للتشميس منها أن يعرض المشمس على مشايخ القبائل والقضاة العرفيين، الذين وافقوا على العقوبة، وكان من الصعب أن يوقع أى شيخ على ورقة تشميس إلا بعد تأكده من أن الشخص يستحق العقوبة القاسية، وكانت هناك قوانين بالعرف نفسه تجعل للمشمس حق مقاضاة من يشمسه».

ويضيف سعيد «أما الآن فقد أصبح هناك بعض الفساد، حيث يستخدم العرف لمصالح شخصية من قبل أصحاب النفوذ فى القبيلة، مما أفقد العرف والقانون العرفى هيبتهما»، ويوضح سعيد أن المشكلة ليست فى القانون، لكنها فى القائمين على القضاء العرفى حاليا، فضلا عن تدخل الأمن فى القضاء العرفى بشكل جعله فاسدا، واصبح هناك تشميس يتم لأسباب غريبة، مثل أن يعاقب شخص خوفا من تعرض العائلة لمضايقات أمنية فى حالة إطلاق شخص لحيته أو انتمائه لأحد أحزاب المعارضة، أو كونه مطلوبا لجهاز الأمن، والآن أصبح من النادر أن تجد عائلة ليس بها مشمس أو أكثر.

أعداد المشمسين، كما يقول أهالى سيناء، زادت لأسباب مختلفة كما يؤكد الجغيمان قائلا: «يمكن إرجاعه ذلك إلى نمو أعداد أبناء القبائل، وإلى زيادة الاختلاط بين أبناء القبائل، وبالتالى زيادة التعاملات المالية بين القبائل، وبالتالى صارت المشاكل أكثر».

هناك سبب آخر يورده شيخ القبيلة، وهو أن كل عشيرة تحدد أسباب الخروج من القبيلة «تبعا لمصلحتها، ويوجد فى كل عشيرة سيناوية ما يسمى الحصوة وهى ما يعرف بالميثاق الذى يعد بواسطة أفراد القبيلة، ويحق لجميع أفراد القبيلة البالغين الاشتراك فى صياغته، وفى الميثاق الخاص بالعشيرة عندما جعلنا حماية العشيرة لا تمتد لثلاثة أشخاص هم القاتل مع سبق الإصرار والترصد ودون إخطار العشيرة، والمتزمت دينيا، لأن المتزمتين لا يقبلون القانون العرفى أصلا، وكل من يرتكب جريمة جنسية».

يعد المشمس عند الغالبية من أبناء سيناء مصدراً للخطورة، يقول سعيد: «فى بداية التشميس يكون المحكوم عليه لا يزال يأمل فى تراجع القبيلة أو العائلة عن قرار التشميس ولكن بعد فترة يتحول إلى إنسان عدوانى، لأنه يشعر بأن الناس من حوله تنظر له على أساس أنه إنسان يثير الشبهات»، وهذا مايدعو إلى عدم التعامل معه كما يرى سليمان عودة من عشيرة النوافلة إحدى عشائر قبيلة الرمليات «لا أعتقد أن هناك شخصاً، مشمساً يكون مظلوماً، وبالتالى لا أتعامل مع أى شخص مشمس لأنى أدرك أنه بلا مرجع أعود إليه إذا حدثت بينى وبين هذا الشخص مشكلة» أما سليمان فيؤكد نفس وجهة النظر قائلا «طوال ٦٤ سنة لم أر شخصاً مشمساً مظلوماً».

يرى خليل الجغيمان أن خطورة المشمس تأتى من كونه «شخصاً منحرفاً، حيث لا يتم التشميس إلا بعد تكرار الفعل الذى لا ترضى عنه القبيلة أكثر من مرة وتأتى الخطورة هنا، حيث إن المشمس يكون مثل الشخص المحكوم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ»، وفى دراسة لسعيد عتيق عن الإدمان بين أبناء سيناء، جاء فيها أن المشمسين هم الأرض الخصبة للإدمان، وأنه يتجه جزء منهم إلى الاتجار بالمواد المخدرة لتوفير نفقاتهم المادية بعد ذلك.

خبراء اجتماع وعلم نفس: المنبوذون قنابل موقوتة فى سيناء


كان لابد من استطلاع رأى أساتذة الاجتماع والطب النفسى لمعرفة ماذا يدور فى عقل المشمس، وحذر الخبراء من كون المنبوذين فى مجتمعات القبائل المغلقة قد يصبحون قنابل موقوتة لا أحد يعرف أين ومتى وكيف سوف تنفجر.

الدكتور هاشم بحرى رئيس قسم الأمراض النفسية بطب الأزهر يقول «المنبوذ فى أى مجتمع يتكون لديه شعور بالغضب وتكون أمامه طريقتان لخروج هذا الغضب، إما بخروج هذا الغضب نحو نفسه ويكون ذلك بأن يسلك طرقا مثل المخدرات، أو بتوجيه هذا الغضب نحو الآخرين وذلك بالانتقام من أى شكل من أشكال السلطة، وتعد عقوبة التشميس عقوبة قاسية جداً لأن الطرد من مجتمعات صغيرة ومغلقة نسبية يكون له تاثير نفسى سيئ جدا، هذا بخلاف إحساسه بعدم الأمان الذى كانت توفره له القبيلة بشكل قوى وما ينتج عن ذلك، ويعتقد بحرى أن العقوبة مرتبطة بطبيعة المجتمع وطبيعة الصراع به.

وهناك عقوبات غريبة تطبق على أشخاص فى المجتمعات الصغيرة مثل قبيلة فى أفريقيا عندما تحكم على أحد أفرادها بالموت يتجه هذا الفرد إلى الغابة فى انتظار الموت، وفى الغالب تكون زيادة عدد المشمسين نتيجة الصراع الناشئ بين القديم ويمثله مشايخ القبيلة فى حفاظهم على التقاليد والأعراف الموجودة منذ مئات السنين وبين الجديد المتمثل فى فكر وثقافة الأجيال الجديدة.


بينما ترى الدكتورة عزة كُريم بمعهد البحوث الاجتماعية والجنائية أن أى مجتمع معزول لا يحصل على الرعاية الكافية من الدولة لابد أن يخلق لنفسه قانونه الخاص حتى يستطيع أهله العيش فى توازن وأمان وتستمر الحياة، ومن هنا فإن مجتمعا مثل سيناء له خصوصيته، والمجتمع هناك يعيش على تضافر أبناء القبيلة لحماية بعضهم البعض، كذلك تعاونهم فى حالة وقوع غرامة مالية على أحدهم وتكون الغرامات هناك مبالغ كبيرة قد تصل إلى الملايين،

ومن هنا يكون حكم التشميس هو بمثابة فقد الحماية القبلية وله وقع كبير على المحكوم عليه به خاصة أن الشخص من منطقة سيناء ليس سهلا عليه أن يخرج للعيش خارج سيناء وحده ليواجه مجتمعا يختلف فى تفاصيله عن مجتمعه الذى نشأ به ويستطيع تدبير حياته به بأقل الإمكانات، وتكون نتائج هذا أن يقل انتماؤه، كذلك أن يكون الشخص أكثر عنفا أو يكون أكثر خوفا أما فى حالة كونه أكثر عنفا فمن الممكن أن يتبع ذلك أحكام أشد قسوة أو يكون أكثر خوفا ويتقوقع على نفسه، وبالطبع فى مجتمع مثل سيناء نجد نظرة الدولة إلى أبناء المجتمع نظرة يشوبها الكثير من القصور فهى نظرة أمنية فى المقام الأول على اعتبار أن أغلب أبناء سيناء محل شبهة، وهى بالطبع نظرة قاصرة وفى هذه الحالة تكون الضغوط أكبر على الشخص المشمس.


http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=260235&IssueID=1812

 














ليست هناك تعليقات: